عندما تفتحت العيون في العيون
لم تكن رحلة مدينة العيون عاصمة الصحراء المغربية، رحلة عادية بكل المقاييس، فقد يتبادر إلى الذهن أن الزيارة التي ستكون إلى مضارب البدو المنتشرين في طول الصحراء وعرضها، أو إلى مدن من الصفيح يسكنها أناس ينهشهم الفقر والبؤس، أو كما يتم تصويره في بعض وسائل الإعلام أن الرحلة ستكون إلى ثكنات للجيش ومعتقلات للمعارضة. كل ذلك تبدى من المخيلة عندما أعلن قبطان الطائرة التي أقلتني، والوفد الصحافي البحريني، عن الاستعداد للهبوط في مطار مدينة العيون، عاصمة الأقاليم الجنوبية في المغرب، حيث يقابلك مطار منسق ذو خدمات ممتازة وإن بدا صغيراً نسبياً، لتكتشف بعد ذلك أن كل ما حملته المخيلة وما تتناقله بعض وسائل الإعلام ليس سوى ضرب من ضروب المبالغة بهدف النيل من استقرار جناح الأمة العربية الغربي، ولأهداف الله وحده أعلم بها. مدينة العيون أو الساقية الحمراء -حسب الاسم المحلي- مدينة تأسرك منذ اللحظات الأولى، إذ يختلط فيه كل ما يمكن أن تتصوره، فبجانب الأزياء الغربية التي يرتديها شباب وفتيات المدينة ترى ''الملحفة والدراعة'' الصحراوية رمزاً للانتماء العروبي الذي لم يفارق ساكني الصحراء، هذا إلى جانب مبانيها الحديثة وشوارعها الواسعة التي تحاكي شوارع كبرى المدن العالمية من حيث التنظيم والنظافة. مدينة العيون لا تبخل على زائريها بتراثها الصحراوي الأصيل، إذ إن كوب الشاي المغربي يطالعك أينما حللت، وكأنه رسول الصحراء إلى العالم ليؤكد على أصالة هذه الأرض وطيبة ذاك الشعب، وبينما ترتشف كوب الشاب لا بد أن يتسلل إلى مسامعك أصوات الغناء ''الحساني'' الأصيل، ربما تفوتك كلمات لا تفهم معناها ولكن الانسجام مع الموسيقى واللحن ورائحة الشاي يدفعك إلى مزيد من النشوة لتطير بك إلى عالم من السحر والخيال لا يتحقق إلى في ''العيون''. جولات كثيرة يمكن أن تقوم بها، ليس أولها على الإطلاق شاطئ ''فم الوادي'' الذي يكتظ بالمئات وربما بالآلاف من أبناء الصحراء في صورة فريدة من نوعها تتكرر كثيراً في الصحراء، الاختلاط والتجانس الفريد بين كل الأشكال والألوان والأزياء دون حساسية من غريب أو قريب، فالكل في الصحراء أهل ولا تفريق بين شخص وآخر و''كأس الشاي يمكن لك أن تشربه في كل مكان'' حسب ما قال لي مرافقنا ''سالك'' ابن الصحراء، الذي فضل العمل في العيون على العاصمة لأنه وحسب قوله يشعر في الصحراء ''بالحرية والانطلاق كالنسر المحلق''، كل شيء هنا -والقول لسالك- يدفعك إلى الانطلاق، ويضيف ''حياتنا بسيطة للغاية، ويتوفر كل شيء لنا من مدارس ومعاهد ومستشفيات وخدمات حكومية، ربما تفوق في جودتها ما تقدمه الحكومة لسكان العاصمة أو المناطق الشمالية من البلاد''. ولأشعر بالمكان عن قرب فقد خرجت في أكثر من جولة منفرداً لأقابل الناس العاديين كما هم في المقهى والتاكسي وصالون الحلاقة...، أناس لا يحملون إلا أخلاق الصحراء العربية الأصيلة، حيث النخوة والكرم والشجاعة، وأهم من ذلك كله الانتماء والإخلاص الوطني المبنى على أسس عقائدية وفكرية فطرية لا يمكن التفريط بها أو التنازل عنها، وعلى رأسها على الإطلاق وحدة التراب والوطن في ظل الدولة. أما ماذا تعني لهم الحركة المسلحة والتي تطالب بانفصال الصحراء في دولة مستقلة، فقد رأيت شبه إجماع على أن الوطن واحد ولا يمكن تقسيمه، أما بالنسبة لحركة البوليساروا فلم يخفوا أنهم أبناؤهم وإخوانهم وعشيرتهم، ولكن ابتعدوا عن الطريق الصحيح ولا بد أنهم عائدون لا محالة، لأنه وكما قال الملك الراحل الحسن الثاني ''إن الوطن غفور رحيم''، ولهذا فقد أقامت الحكومة مدينة الوفاق وهي مخصصة للعائدين من البوليساريو، حيث يتم تسكينهم في بيوت خاصة بهم وإعطائهم مبلغاً من المال إضافة إلى تأمينهم في وظيفة محترمة ودون أدنى مساءلة من الحكومة أو الجهات الأمنية. هكذا هو الوطن.. دائماً كبير بعطائه وتضحياته وكرمه، ولكن الأهم أن نقدر نحن هذا العطاء وتلك التضحيات، لأننا لو عرفنا لما كفانا أن تكون أرواحنا وقلوبنا وأبناؤنا وأموالنا فداءً له.. فهو الوطن الكبير الذي يضم الجميع، كما الأم تحنو على صغارها وتمنع عنهم الضيم والظلم.. .. وللحديث بقية.. من أسرة »الوطن«
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق